في عيدها الثاني والثلاثين، فاز الدكتور عدنان الظاهر بجائزة شربل بعيني لعام 2024، تقديراً له على عطائه الادبي المميز

ريباخا الرافعي


 (( مجموعة قصص لأنيس الرافعي . الناشر : سعد الورزازي. الرباط، المغرب. الطبعة الأولى 2004 )). 


 مقدمة :

في الكتاب ( 70 صفحة ) عشر قصص أسماها الرافعي " حالات ". أعطى الحالة الأولى الرقم الحسابي ( صفر ). وحملت الحالة الأخيرة  الرقم ( تسعة ).

 قبل أن نبدأ سياحتنا مع السرد القصصي نقرأ المواضيع التالية : تقديم بقلم الأستاذ محمد معتصم. ثم " مقتبسات " إستعارها القاص من كلٍّ من الأستاذين الأمين الخمليشي وعبد الهادي السعيد. ثم " كرونولوجيا وتنبيه " من لدن القاص الرافعي أنيس.


مقدمة :

قبل الدخول في عالم قصص أنيس الرافعي، وكمحاولة تساعدني للقيام بمهمة فهم وتفسير وتيسير هذا الضرب من القص، أعرض ما يلي: 

1 – شروط الكتابة لدى أنيس /  قد تكون بالضبط، أو قريباً من ذلك،  ما نقله عن الأستاذ عبد الهادي سعيد (( تلزمني أشياء كي أكتب النص / فأس لغوية... قليل من الإيقاع أتكئُ عليهِ...لسعةٌ في الكلام.... حروفٌ جديدة في أبجدية الصمت.... لترٌ من الكذب )). لترٌ من الكذب !! ألم يقلْ قدامى الشعراء : الشعرُ أعذبهُ الكذوبُ...

2 – روافد ومصادر قص الرافعي أنيس : أ ـ الفوضى الوجودية.  ب ـ الرمزية المُبتَذلة. ج ـ العولمة المتوحشة، أي الرأسمالية الكونية ( قمت بإستخلاصها من الصفحة الحادية والعشرين من المجموعة القصصية ). 

 3 ـ من هو ريباخا بالنسبة لخالقه ومحرّكه نقطةً أو مركزاً فعّالاً يتحرك داخل مجموعة من الدوائر الهندسية الموحّدة المركز والمختلفة  في أطوال أقطارها وقياس  محيطاتها ؟؟ أ ـ كشخص أو شخصية... جوهر فادح. ب ـ كرؤية ...نموذج فاقع. ج ـ  كمنطق... نمطي كاسح. ( إستخلصت هذه السمات والمواصفات مما كتبه القاص نفسه )

قد أُغامر في ضوء هذه المعطيات أنْ أَدّعي القدرة على فهم وتفسير سلوك ودوافع بطل القصص المركزي السيد ريباخا. قد يقول قائل : لست بحاجة لفهم أو تفسير

النصوص الأدبية.... أقرأها وكفى. إستمتع بقراءتها لحظة القراءة ثم أرميها جانباً وأنساها. لا إعتراض لديَّ على هذه الفئة من قرّاء الأدب والشعر. هذا شأنهم. أما أنا  فلا. حين أقرأ النص أُجهِدُ نفسي كيما أفهمه. النص الذي أفهمه أتذوّقه، فيصبح جزءاً مني وأصبح جزءاً منه. أي يساهم في إعادة تكويني الأدبي وترتيب منظومات

 وآليات فهمي ما دمتُ أقف أمام نص خلاّق جديد عليَّ وعلى ما قد ألِفتُ من نصوص.

 أجلْ، أعودُ ثانيةً لسؤالي السابق :  من هو ريباخا ؟

هل هو القاص أنيس نفسه ؟ ظله ؟ صورته في المرآة ؟ لوحه الفوتوغرافي السالب أو الموجب ؟ أم إنهما شخص وشبح مستقلان عن بعضهما، يتبادلان التموضع والأوضاع الفضائية أو المكانية  في إتجاهات تتوازى حيناً وتتقاطع أحيانا ؟ هل القاص أنيس مجرد مصوّر سينمائي يحمل على كتفيه كاميرا ديجيتال سينمائية لا همَّ له في الوجود إلاّ ملاحقة وتصوير حالات شبح إسمه " ريباخا " أو " ريباكا ". شبح مرتبك حائر لا يستطيع حسم الكثير من الأمور، بل وليس معنياً أصلاً في حسم أي من أمور دنياه. ولِمَ الإهتمام بشؤون دنيانا ما دام هو نفسه مجرد شبح لا يمتُّ لهذه الدنيا بأيّما صلة ؟!.  

ريباكا الشخص ـ الشبح شخصٌ غير مُسيّس، لا علاقةَ له بالسياسة. لا تهمه معاناة الفقراء والبائسين والمظلومين والمعذّبين في الأرض. لا ثورات في عالمه ولا إنقلابات عسكرية ولا ثورات مضادة. شخص ـ شبح عائمٌ فوق الطبقات الإجتماعية. لا ينتمي لأيٍّ منها. ليس في قاموسه اللغوي كلمات مثل " حرية " أو " ديمقراطية "

 يدور حول نفسه. مصالحه محدودة ومتواضعة. لا يتدخل في شؤون الآخرين إلاّ في النادر من الحالات والأحوال. شخص ـ شبحٌ  مكتفٍ بنفسه.... وجودي.... بوهيمي... يتحرك في جميع الإتجاهات وعلى جميع خطوط العرض والطول الجغرافية. حركاته جبّارةٌ عنيفةٌ  ضاربة القوّة حتّى لتغنيه عن الكثير من الكلام. لكأنما يتكلم بحركاته الموضعية منها والإنتقالية. نبتة ثابتة مرّةً وشجرة وارفة متحرّكة  مراتٍ. وحين يلوذ بالصمت.... إخاله يتكلم همساً أو يطنُّ كنحلة تدور.... تجني غبار الطلع.... تبني خليتها بأشكال هندسية صارمة محددة ثابتة المقاسات والأحجام. مع ذلك فإني أرى كل الجمال وأُحسُّ بكل المتعة حين أنصرف لمراقبة النبتة الثابتة والشجرة المتحركة والنحلة الشغّالة في حالتي سكونها ونشاطها متعدد الجوانب.

هل يكفيني ـ كقاريء ـ هذا الجمال وهذا القدر غير المحدود من المتعة ؟ أقول دون تردد : نعم. نعم لأنه نوعٌُ جديد وبديع من الجمال الأدبي يفرضُ عليَّ نوعاً خاصاً من الإستمتاع. فهذا ينبع من ذاك ويعود إليه. لولا ذاك لما كان هذا.

طبيعي أن يختلفَ القرّاء في الكيفية التي يفهمون ويقرأون ويفسرون ما بين أيديهم من نصوص. وستختلف حتماً درجات ومستويات وعمق الإحساس الجمالي لديهم. يتبع ذلك التفاوت في الشعور بالمتعة الفكرية والنشوة الروحية التي هي أعمق ـ كما أحسب ـ من سابقتها.تلك أقصر عمراً من إنتشاء الروح وأقل دواماً. أردتُ أنْ أقولَ ما يلي : النص الذي ينتقل مباشرةً إلى الروح أكثر خلوداً وأعمق أثراً من ذاك الذي يحرّك الفكر فقط. أي أني ـ كقاريء ـ أتقبّلُ وأنفعل وأتفاعل مع النص الخلاّق والبديع مهما صعُبَ عليَّ ومهما إستغلق على فهمي وعلى تفكيري المبرمج مثل جهاز الكومبيوتر. النص الخلاّق يشدني إليه ويربطني بجسور أُحسّها لكنْ لا أراها ولا ألمسها. أتأثر بها عن طريق مجسّات سرية خفية لا بوساطة أجهزة عضوية. هنا تبرز عبقرية النص وصاحب النص : قدرته على توجيه نصه إلى المناطق الخفية في كياني فيصيب أهدافه كأبرع رامٍ. يوجّه نصه وفق آلياتٍ شديدة الغموض إلى مناطق التأثير الشديدة الحساسية لأمثال نصوصه. إنها قدرة عفوية يكتشفها صاحب النص من خلال ممارسته الكتابة وإحتكاكه بالقرّاء من مختلف الأطياف والمذاهب والمشارب.

عشر قصص أو حالات كتبها المؤلف في عشرة مقاهٍ. سأبدأ بالحالة رقم ( واحد ) التي كتبها في مقهى " الصباح / ساحة السراغنة ".

الحالة رقم واحد / رنين في رأس السيد " ريباخا "

كتب تحتها ( قصة  - قصيدة نثر )

تتميز هذه الحالة ( القصة / الأقصوصة ) بأسلوب ( تكنيك ) خاص، فالأطروحات الفكرية البحتة تدور لتنقلب على نفسها، سطراً سطراً ثم مقطعاً مقطعاً. فالممكن يغدو غير ممكن، والمحتمل يصبح غير محتملٍ، والمحتمل وقوعه ينقلب إلى غير ممكن الوقوع. لقد غيّر أنيس الرافعي في ماهية المقولات الثلاث القديمة المعروفة : الممكن والواقع والمستحيل. كيف غيّر ماهيات هذه الأطروحات الفلسفية . بكل بساطة : مارس الكاتب رياضة اللعب بالكلمات. تمارين ليست شاقة، لكن نتائجها غاية في الخطورة. لكأنما أراد الكاتب أن يُثبتَ لنا أنَّ كل شئ في الحياة، وأنَّ أخطر شئ في الحياة ( الزمن ) يمكن التلاعب به وتغيير إتجاه مساره، إيقافه، تحريكه حيثما يشاء المرء. حين ينقلب السطر على نفسه، أو المقطع الكامل على نفسه، إنما يقع ذلك أو يكون ذلك ممكناً بفضل وجود واسطة تتوفر فيها  شروط القابلية على الإنقلاب والتغيّر السريع. ريباكا هو هذه الوسيلة والواسطة المطواعة. أمثلة. نقرأ

في مطلع الصفحة الأولى من الحالة رقم واحد ( ص 24 ) هذا المسلسل المتحرك على عجلة من الإحتمالات الزمانية :

كل هذا محتمل جداً

محتمل أنه وقع فعلاً

أو بالأحرى كان بوسعه أن يقع 

ما هي الفوارق اللغوية بين التعبيرات التالية :

هذا محتملٌ جداً // محتمل أنه وقع // بالأحرى كان بوسعه أن يقع ؟؟

( الأحتمال ـ إحتمال الوقوع ـ كان بالوسع أن يقع ). في تحصيل الحاصل لا نرى أي فارق ملموس قد تتمخض عنه هذه الترتيبات الكلامية. الواقع النهائي يقرر : لم يقع شئ على الإطلاق. الدوران في حلقة مُفرغة... جعجعة الطاحون ولكن لا من طحين. هذه هي الحياة... فراغ ودوران في اللاجدوى. أي أننا نواجه أنفسنا في شخص مثل ريباخا الذي (( يبيع كل شئ ولا شئ بسعر واحد / ص 20 )). حتى اللاشئ... حتى العدم له سعر... سعر واحد ثابت يصلح لكل ألوان وأشكال العدم. يذكّرني هذا الكلام ببعض أقوال الشاعر الإنجليزي توماس إليوت في القسم الثاني تحت عنوان (  لعبة شطرنج ) من قصيدته الشهيرة ( الأرض المهجورة أو الخراب ) . قال : 

Do you know nothing , Do you see nothing, Do you  remember Nothing.

فللسؤال الأول معنيان هما :

الأول : أفلا تعرف شيئاً ؟

الثاني : ألا تعرف اللاشئ ؟ 

قد لا يكون الفرق بين هذين السؤالين كبيراً في اللغة العربية. لكنه كذلك بالإنجليزية. كلاهما ـ على أية حال ـ ساخران

وكان هذا شأن السيد ريباخا (( يبيع كل شئ ولا شئ بسعر واحد )).


كان هذا مفتتح الحالة رقم واحد. دارت القصة ـ الحالة لنرى نقائضها في نهاية القصة. كيف ؟ نقرأ في الصفحة 26 ما يلي :

كل هذا غير محتمل تماماً

غير محتمل أنه وقع إطلاقاً

أو بالأحرى لم يكن بالإمكان أن يقع.

كيف نفهم وماذا نفهم من هذا الكلام  ؟ 

نفهمه إذا فهمنا معكوسه أو نقيضه. سأضع النقائض جنباً إلى جنب ففي إجتماع المتضادات يقدح الشرر وتنجلي الظلمات :

محتملٌ جداً --- غير محتمل تماماً

محتمل أنه وقع فعلاً --- غير محتمل أنه وقع  إطلاقاً

كان بوسعه أن يقع --- لم يكن بالإمكان أن يقع

رغم كل هذا التعقيد الشكلي في صياغات الجمل، سخّر الكاتب أداتين للنفي فقط، هما " غير " و " لم ". غير محتمل... ولم يكن...

هذه هي لغتنا، عجينة تجبلها كيفما شئتَ وتصنع منها ما شئتَ من تراكيب وأشكال لغوية تختلف جذرياً في معانيها بتوظيف أبسط الصيغ المتاحة توكيداً أو نفياً.

لا تتم المتعة بعرض هذه النماذج لوحدها دون التعرض لنماذج أكبر منها, أعني الدوران الإنقلابي على سطوح مرآة عاكسة. هنا لا نجد متناقضات في الشكل والمعنى، إنما نجد الصورة الحقيقية وإنعكاسها في مرآة. ليس في الإنعكاس تناقض ولكن فيه قلب وإنقلابات. الأذن اليمنى تبدو يسرى في المرآة. وهذه هي حالة بقية أعضاء وجه الإنسان أو أي مرئي آخر. نقرأ في الصفحة 25 من الكتاب ما يلي :


وفي هذه اللحظة، سيندلع  في عُلبة رأسي الرنين الخافت لتلك السنوات الأربع مثل أجراس البقر في حقلٍ بعيد وسأتخيل القُبل والمخاصرة والعناق ويدي الغامضة التي لم تكن تلوِّح لها بما يشبه الجحود :

آه من المقهى الصغير

والشارع الطويل

والمصطبة الإسمنتية

وحافلة المحطة الطرقية.

وفي الآن ذاته، سيندلع في عُلبة رأسهاالرنين الصاخب لتلك السنوات الأربع مثل أجراس البقر في حقل قريب وستتخيل بدورها القُبل والمخاصرة والعناق ويدها الواضحة التي كانت تلوِّحُ لي بما يشبه الرجاء :


آه، من حافلة المحطة الطرقية

والمصطبة الإسمنتية

والشارع الطويل

والمقهى الصغير !

كان هذا على صعيد الجُمل، أما المتناقضات أو المتضادات على مستوى المفردات فأضعها في الجدول الأتي :

الخافت ---- الصاخب // تناقض في درجة الصوت

بعيد ---- قريب // تناقض في المسافة

غامضة ---- واضحة // تناقض في الرؤية

لا تُلوِّح // تُلوِّح // تناقض في الحركة

الجحود ---- الرجاء // تناقض في الأمل وكرم الخُلق

رجل ---- إمرأة // تناقض في الجنس البشري

لها ---- لي // تناقض في الضمائر.

إنقلب سياق السرد دون إستخدام أدوات النفي المعروفة. غيّر الكاتب مكان الأسطر فغدا السطر الأول السطر الأخير. وإنقلبَ الرجلُ إلى إمرأة. وأصبحت (( يده الغامضة التي لم تكن تلوّح لها بما يشبه الجحود ))... أصبحت (( ويدها الواضحة التي كانت تلوِّح لي بما يشبه الرجاء )). أضع أو أقابل المتعاكسات كما فعلتُ قبل قليل :

آهِ من المقهى الصغير--- آهِ من حافلة المحطة الطرقية

والشارع الطويل--- والمصطبة الإسمنتية

والمصطبة الإسمنتية --- والشارع الطويل

وحافلة المحطة الطُرُقية --- والمقهى الصغير!

ثمَّ :

ويدي الغامضة التي لم تكن تلوِّح لها بما يشبه الجحود ---- ويدها الواضحة التي كانت تلوِّحُ لي بما يشبه الرجاء.

حين ينقلب الرجل إمرأةً تتبدل كافة الأحوال وينقلب ما كان سالباً إلى فعل إيجابي. الأمر السالب مع المذكّر يتحول مع الأنثى إلى فعل إيجابي :

يدي الغامضة التي لم تكن تلوِّح لها بما يشبه الجحود.... تغدو مع المرأة : ويدها الواضحة التي كانت تلوِّح لي بما يشبه الرجاء....هناك يد غامضة وهنا يد واضحة. المرأة هي المرآة. فلنلاحظ عدد حروف هاتين الكلمتين ودرجة التطابق في شكل كتابتهما رغم البون الشاسع بين معنييهما. مرأة // مرآة.

ذكر الجحود مع الرجل وإنْ كان قد نفاه. لكنه ذكر الرجاء مع المرأة. لقد علّق الكاتب كلاً من الجحود والرجاء وقيدهما بقيد ثقيل لكي لا يسمح بالإطلاق. قيدهما بتعبير أو شرط (( بما يشبه )). فلا الجحود مطلق ولا الرجاء. 

هكذا نرى أنفسنا أمام فن روائي جديد. وأمام تقنية ( تكنيك ) سردية جديدة برع أنيس الرافعي في هندستها وتنفيذها على الورق أيّما براعة. من حقه أن يسجِّلَ فيها براءة إختراع.

في هذا القلب سواء بإستعمال أدوات النفي أو بإستخدام مرآة وهمية.... أجد جمالاً وفناً ليسا مسبوقين. تتغير في المرآة الإتجاهات. وفيها يتغير جنس بني آدم. ينقلبُ الذكرُ أُنثى. 

تأرجح وحيرة ريباخا بين اليقين والشك ـ 

تُخفي هذه القصة ( التي أسماها كاتبها بحق قصيدة نثر )... كما هو الحال مع بقية القصص، تُخفي وراءها عالماً آخر غير مقروء. وإنه هذا هو عالم القصص الحقيقي وليس الكلمات التي قرأناها وهندسة المتناقضات التي أعجبتنا. أعني عالم جدلية  

 . Uncertain والشك أو اللايقين Certain  اليقين

هنا يكمن عالم أنيس الرافعي الحقيقي، هنا في هذه الصفحات المخفية تحت السطور المكتوبة بعناية والمبنية بأشكال هندسية مألوفة أو وفق أبنية منطقية غير مألوفة. هنا عالم كالبحر زاخر بالوجع الإنساني والشعور بمحنة الوجود وثقل وطأة الزمن على الإنسان الواعي والمثقف.

قراءة أخرى ـ سياحة في العمق

تعالج قصة " رنين في رأس السيد ريباخا " موضوعة التحوّلات في الزمن. الزمن الماضي والزمن الحاضر. وكيف تتغير صور ووقائع الذكريات مع التحول الزمني من الماضي إلى الحاضر. في هذه القصة صورتان أو مشهدان :

الصورة الأولى في رأس ريباخا ـ هنا يتكلم ريباخا مع نفسه عن نفسه. يسترجع ذكرى قصة حب وقعت له مع إمرأة. كان هو قاسياً معها وما كان أصلاً عاشقاً. مثّل كَذِباً معها دور العاشق. خدعها. كان جاحداً. نعم، وكان قاسياً. هذه هي ( الآن، في اللحظة الراهنة )  صورة حدثٍ وقع في الزمن الماضي. فهل كان الحدث كذلك بالضبط حين حدوثه أم أنَّ مرِّ الزمن غيّر الصورة وكافة جزئياتها ؟؟

الصورة الثانية، كذلك في رأس ريباخا ـ الصورة هذه الصورة نقيض  تلك. هنا المرأة عاشقةً بالفعل. 

  أحبّت ريباخا وفي حبها كان هناك ثمّةَ من أمل. كان هو كاذباً وكانت صادقة.

أتساءل ـ  كقارئ ـ : هل الصورتان صادقتان أمينتان كما يظهران الآن،  كفيلم سينمائي على شاشة، الآن في اللحظة الراهنة وكما حصلتا حينذاك في الزمن الذي مضى وإنقضى ؟؟  أن أنهما مغايرتان، الآن، لما كان قد وقع  فيما مضى من الزمن ؟؟ ما الذي، تُرى ، قد تبدّل وقد تحوّل ؟ ما سر وما تفسير هذا التحوّل والتبدّل ؟ هل نحن ـ البشر ـ نتبدل ونتغير أم الأحداث نفسها هي التي تتغير ؟! لا ثبات إذن. الثباتُ مُحال. تصوراتنا تتغير. ذكرياتنا تتغير.  تأويلاتنا تتغير. رؤانا تتغير. وكذلك تفسيراتنا.

حين يتحرك الزمن ويتغير تتغير معه كافة ظواهر ووقائع الحياة. فما كان يبدو لنا في زمانه الذي مرَّ  جيداً قد نراه الآن، في الزمن الحاضر،... قد نراه سيئاً. والعكس بالعكس. وكذلك ما كان مرَّ المذاق قد نجده فيما بعد حلواً. أو ما كان بالأمس معتماً نراه اليوم مضيئاً. في حركته الأبدية يُغير الزمن كلَّ شئ. الأشياء محمولة على الزمن. الزمن قاطرة أو حافلة لا تتوقف حركتها والبشر مسافرون، راكبون لا سيطرة لهم على حركة وسرعة وإتجاهات حافلتهم. ترك هذه الحافلة المتحركة أبداً لا يعني إلاّ التخلي بالموت عن الحياة. حياتنا زمننا، أَجَلنا المحسوب والموقوت. زمننا هو المتحكّم الجبار فينا وعلينا. ذلكم إستنتاج غاية في الخطورة. فالزمن هو بديل القدرة الكونية الكلية. بديل خالق الكون وصانع الأقدار. الزمن بديل الأديان كافّةً. إلهٌ  مُكتفٍ بذاته ومُستغنٍ عن طقوس العبادة والتقرّب والتضرّع وتقديم النذور والقرابين. يؤثر فينا بفعل قوىً لا نراها، هي مجالات فيزيائية ربما تكون من طبيعة المجالات الكهرومغناطيسية الناجمة والمرافقة لحركته الأبدية. تتولّد الطاقة الكهربائية  جرّاء دوران ملفّ من أسلاك النحاس في مجال مغناطيسي قوي. ما حياة الإنسان اليوم دون طاقة الكهرباء ؟ زمننا حياتنا.... حياتنا في الكهرباء. في الزمن ـ الأله الجديد ، إله ريباخا، تنتفي حاجة البشر للأديان كافة. يتوحد البشر في الإعتراف بالزمن إلهاً يتحرك صامتاً ولا يحتاج إلى رُسلٍ وأديانٍ وطقوس عبادة. لا يعِدُ بجنّةٍ ولا يتوعدُ بنار. عبد الناس قبلنا الأوثان أخشاباً وصخوراً ومعادن شتى. عبدوا الشمس والنجوم والقمر. عبدوا النار وأقاموا لها البيوت المعظّمة. عبدوا حتى بعض الحيوانات كالبقر. عبدوا عجول الذهب. الآن ـ حسب نظرية أخينا ريباكا  أو ريباخا ـ قد إنتهى زمن العبادات. فليحرر البشر أنفسهم من قيود ثقيلة ألزموا أنفسهم  بها  وفرّقتهم لما يزيد على الخمسة آلاف عام. لا يحتاج الزمنُ ربّاً جديداً للمساجد والصوامع والكنائس والبيع. الزمن موّحِد البشر. 

ملاحظة قوية : لا دخلَ للأستاذ أنيس الرافعي بهذه الفذلكات النظرية ـ الفنطازية. إنها مسؤوليتي أتحملها 

وأواجه تبعاتها وحدي. إستنتجتها أثناء خلواتي التي كنتُ أدرس فيها وأراقب سلوك  ريباخا. في لحظة من اللحظات النادرة وجدتُ نفسي حالاًّ في ريباخا. نسخني بدوره وحلَّ فيَّ.  لكنْ.... نعم لكن، ختام حياتي يتحمله صاحب النص، لا ريباخا المرتبك المعتوه  ولا أنا المفتون به. أنا ـ هو... المراقب ومشاهد الفيلم السينمائي العجيب.  

رأيتُ في منامي ذلت ليلة... رأيتُ ريباخا يصلّي. سألته وقد فرغ من صلاته : لمن تصلي ؟

قال أُصلّي لربيَ الزمن. قلتُ وأين ربّك الزمنُ ؟ قال في هذه الساعة المعلّقة أمامك على الحائط. في

 حركتها ربّي وهي قبلتي. قلت له إنك معتوه معتوه. قال أدري. هكذا خلقني صاحبي الرافعي.

ودّعته وقد أصابني شئٌ من العُته. شئ من خَباله والله الساتر !!

 الآن،  ماذا  نقرأ في  القصة التي تحمل الرقم خمسة والعنوان الطويل : 

 داخل السيد  " ريباخا "، خارج السيد "

 ريباخا " ( إستخطاط  قصصي إفتراضي ).

داخل ريباخا ـ خارج ريباخا  

 ما الذي يميّز الداخل عن الخارج ؟ وما هو داخل ريباخا وما هو خارجه ؟ لِمَ يقابل أنيس ما بين هذين العالمين المتضادين لفظياً والمتحدين من حيث الطبيعة والنتيجة والمآل ؟ فلندخل في صميم داخل السيد ريباخا ونتحرَ حقيقة هذا العالم ونحاول الكشف عن أسراره كلها أو بعضها. فإذا ما حققنا البُغْية سنخرج مع أنيس إلى خارج ريباكا. إنها جولة متعبة وشاقة، جولة فيها فلسفة جدَّ عميقة وفيها سخرية وتمثيل هزلي يضحك فيه الممثل علينا حاسبين خطأً وخطلاً إنما نحن من يضحك عليه وعلى تمثيله وحركاته وتصوراته.

أُلخّصُ داخل ريباخا بما يلي : يتكون هذا العالم الداخلي من أربع مراحل أو أربع حُجُراتٍ يقضّيها الإنسان سجين داخله : 

المرحلة الأولى أو الحجرة الأولى ـ قلق دائم

الحجرة الثانية ـ جمود الزمن والحركة، الزمن عائم ـ ساعة ميّتة.

الحجرة الثالثة ـ مرآة لا تعكس شيئاً مرئياً ـ الفناء... العدم الوجودي.

الحجرة الرابعة ـ الشيخوخة... شيخوخة الكون بعد فناء الفرد السجين والمعذّّب والبائس والضاحك الهازئ والراقص رقص القرود. يهزأ بالناس رمزاً لوجود لا حقيقة ولا ثمنَ له.

كيف يصف ريباخا عالمه الداخلي هذا ؟ لا نجد وصفاً لهذا الداخل إلاّ حين نغادره إلى الخارج. يقول السيد ريباخا (( حين بارح السيد " ريباخا " ذلك المكان غير الودي والمأهول بالهواجس الفتّاكة والغرف المتشابهة، لم يعرف بالتحديد لِمَ إنقشعتْ عنه في لحظة واحدة، كما لو أنه أصبح غيرَ معنيٍّ بها على الإطلاق، كل الإلتباسات الفادحة والمشاعر السوداء التي كانت تستبد به )). هذا هو داخل ريباكا حسب وصفه هو... فأي داخل هذا الذي كان فيه والذي تلبّسه وعايشه وعاش فيه ؟؟ أي جحيم ؟؟ من حقه إذنْ أن يتركه... أن يهرب منه ما إستطاع إلى ذلك سبيلا. هو بالتأكيد لا يعرف مواصفات عالمه الخارجي. لا يعرف شكل وطبيعة مصيره فيه. لكنْ على السيد ريباكا أن يجازف وأن يغامر وأن يستكشف آفاقاً أُخرَ فالمرء في الحياة عموماً أمام إحتمالين لا أكثر : إما غالبٌ أو مغلوب. إما منتصر أو مندحر. إما حيٌّ أو ميّت. الموت في الخارج لا يخيف ريباكا. كان ميتاً في داخله. فليجرِّب، عسى أن يجد له مكاناً أفضلَ خارج ذاته، خارج سجن جسده، خارج عذابه وهواجسه القتالّة. خارج الرتابة والمشاعر السوداء والإلتباسات الفادحة. فليجربْ.

كيف نجد ريباكا في الخارج، خارج حدود ذاته ؟؟

أستعير كلماته هو (( ... سائراً بلا هدف وبلا بوصلة...يتباطأ تارةً دون أنْ يعرف لماذا تباطأَ ويُسرعُ تارةً أخرى دون أن يعرفَ لماذا أسرعَ، ثم توقّفَ لحظةً من دون أنْ يعرفَ لماذا توقف )). 

إذا قتلت ريباكا رتابة الداخل والظواهر المتكررة والمتشابهة، وطحنت روحه وسممتها بالملل والسأم... فإنه يكتشف في عالمه الخارجي الجديد ظواهر مماثلة إنْ لم تكن أسوأ من تلك. هناك غرف متشابهة وهنا في الخارج أمور وظواهر ومظاهر إمّا متشابهة في دورية تكرارها حتى الموت، أو ثابتة حتى الجمود الفتاك الذي يفوق السأم المميت كثيراً. أقتبس بعض المختصرات لما في عالم مدن الخارج... خارج الحريات المنفلتة القتّالة ((...الأبنية طاعنة في الجمود. النوافذ والأبواب والمحلات والمقاهي... موصدة على ذاتها بإحكام لا نظيرَ له. السيارات والدراجات والعربات والشاحنات متوقفة في شبه ميتة جماعية عارمة. إشارات المرور وإعلانات الإشهارخامدة الأنوار ومرشوسة بغبار متقادم...، الشمس قصيرة القامة... وملطَّخة كلياً بلون رمادي متسخ. كذلك لم يكنْ ثمة طيور أو عصافير لتكرر تحليقها في السماء. فقط صمت شامل ومُطبق وموحش يلّف كل شئ... )). 

هل يستحق هذا العالم الخارجي إذنْ أن نغادر دواخلنا ونبخسَ أثمانها لأننا لا نرى وجوهنا في مراياها، أو لأنَّ زماننا قد مات فينا، ولأننا لا نعرف كيف نُصرِّف أو نتخلص من قلقنا وما يقلقنا ؟؟ تلكم هي معضلتنا في وجودنا ومع أنفسنا. نترك السئ الذي نعرف ونتقبل الأسوأ الذي نجهل. 

(( ... واصل سيره لا يدري إلى أين...إلتفتَّ فجأةً....إكتشفتَ أنك فقدتَ ظلّك )). 

نقف لهنيهةٍ ههنا ونسأل : ما سبب تحول النص من الكلام عن الآخر، بضمير الغائب، في حين أنهى الجملة بالكلام بضمير الحاضر ؟؟ بدأت الجملة هكذا (( واصل سيره لا يدري إلى أين... ريباكا هو المقصود )) ثم إنتهت الجملة بالكلام مع النفس  أو مخاطبة إنسانٍ حاضر وليس غائباً ((... إكتشفتَ أنك فقدتَ ظلّك )). هل تصلح أن تقومَ هذه المحاكمة دليلاً على أن القاص، مؤلف القصة، وبطله ريباكا هما شخص واحد يتبادلان الأدوار في الحياة تمثيلاً وجداً وهزلاً ؟؟ وجهان لعملة واحدة، وجهان غير ثابتي المكان، وجهان يتبادلان الأمكنة والمواضع يجمعهما الزمن، الزمن الواحد لا المكان الواحد. فالكتابة في العملة تصبح صورةً وهذه تبدّل مكانها لتنقلبَ إلى موضع الكتابة ( الكلام عن العملة المعدنية المعروفة ). من الذي ينزلق فيغيّر المكان قبل الآخر : مخرج القصة – المسرحية نفسه أو بطل هذه المسرحية السيد ريباكا ؟ الجواب ليس ذا بال، ما داما يدوران كلاهما في مناخ وفي فلك المتصوف الشهير علي بن منصور الحلاّج صاحب (( أنا من يهوى ومن يهوى أنا...). أو قول مارك أنطونيو صاحب المصرية كليوباطرا الذي خاطبها قائلاً : أنا أنطونيو وأنطونيو أنا...

[[ واصلَ سيرهُ – إكتشفتَ أنكَ ]]. الظاهرة واضحة لكنما التفسير يظلُّ غامضاً. علينا أن نقبل بأنَّ [[ هو = أنا.... وأنا = هو ]].... وإنْ كَرِهَ المفسرون ! 

 كيف إنتهت رحلة أو مغامرة  ريباخا السياحية في الخارج وما وجد في هذا " الخارج " ؟ يا لخيبة وإخفاق هذه الرحلة السندبادية الفاشلة !! فلنستمع إليه ((... نفس الساعة التي بلا زمن ونفس المرآة التي لا تعكس ونفس الصورة التي تشبهك تقريباً ! )). ثم، فقد ريباخا وهو في " خارجه " ... فقد سمعه وظلّه وفقد بصره. بل وأفدح من ذلك (( مكثتُ هناك بلا مشاعر وبلا مكان وبلا زمن وبلا ذاكرة وبلا حواس وبلا أمل وبلا رجاء وبلا... وبلا... وبلا...وبلا... ثم فجأةً تهشّمتً، أقصدُ أنا،  كقطعة فخار )).

إذن : الداخل والخارج سواء.

داخل الإنسان = خارج الإنسان

ويلتاه !! أين المفرّ ؟؟

أين سنحيا، أين سنُقضّي زماننا ـ حياتنا ؟؟ لا مكانَ آمناً لنا في داخل ذواتنا ولا أمانَ لنا خارجها فإلى أين يولّي الإنسان وجهه ؟؟ إلى أين يتجه ؟ في أي عالم سيحيا ؟ هل هناك عوالم أخرى غير داخلنا وخارجنا ؟ أين ؟ هل نحن من سيكتشفها ويسعى إليها أم ـ تُرى ـ هي التي تأتينا، أو هنالك قوّة وقدرة أخرى ستأتينا بها ؟ وما الثمن الذي سندفع مقابل هذه الصفقة التي لا نعرف نهاياتها وخواتيمها ؟ 

هل هناك عالم آخر، مكانٌ آخر وزمانٌ آخر نبحث عنه ما بين الداخل والخارج ؟ هل نسعى نحن جادين في سبيل إيجاده وكشفه ؟ فكرة جيّدة. شئ بين بين. لا هو داخل وليس هو بالخارج. ماذا نسميه ؟ لا ضرورة للأسماء. ما كان إسم الزمن مثلاً قبل أن يكتشفه البشرُ ؟ 

الداخل (1)  = الخارج (2) ~~ [ 1 + 2 =  2 + 1 =  موت... فناء... عدم... خيبة وخواء.... لا جدوى وسخف الحياة ].

هذه هي قرائتي لبعض قصص مجموعة " السيد ريباخا ".

قبل أن نفترق سألتُ السيد ريباخا عن معنى أو تفسير إسمه الغريب. أجاب على الفور : إسمي مقلوب عن

{ يا خراب }. ريباخا هو صورة يا خراب في المرآة. جرّب... أكتب إسمي ثم ضعه مقابل مرآة حقيقية لا وهمية ستجده (( يا خراب )). ألم أقلْ لك ـ واصل كلامه ـ إنَّ الحياة خِرْبةٌ وخراب ؟! وإنها مجرد وهم    معكوس على سطح مرآة حقيقية.