في عيدها الثاني والثلاثين، فاز الدكتور عدنان الظاهر بجائزة شربل بعيني لعام 2024، تقديراً له على عطائه الادبي المميز

المتنبي و دون كيخوت

 

خيراً إنشاء الله ؟ من المتكلم في هذا الصباح الباكر ؟

من يتكلم معك في الصباحات الباكرة غير صديقك المتنبي ؟ أهلاً وسهلاً بأبي الطيّب وصاحب الطيوب والنِد والزعفران. كيف حالك ؟ بخير، بخير، زبيد بخير، إنما عنَّ لي أن أسألك سؤالاً ما زال يحيرني ويقض مضاجعي. إسألْ أبا الطيب، فأنا مثلك منفتح و" ديمقراطيٌّ " على الطريقة العراقية الحديثة المستوردة ولا أخشى الأسئلة ونحن في عصر الإنفتاح على الآخِرِ وعلى الآخَر معاً. قال صاحبي سأسألك لكن بالله عليك لا تضحك منّي ومن سؤالي. كيف يجرؤ أن يضحك على رَجُلٍ مثلك رَجُلٌ بسيطٌ متواضع مثلي من عامة الناس ؟ قال صاحبي : إختلطت الأمور فغدا عسيراً تمييز الحابل من النابل. شجّعته أن يبدأ السؤال ويقلع عن تردده. قال هل أنا ( دون كيخوت ) وأنت صاحبه ( سانشا بانشا ) أم العكس هو الصحيح ؟ ضحكتُ... ضحكتُ بكل ما في صدري من هواء. قال لِمَ الضَحِك ؟ يا أبا الطيَّب، أَمثلُك يسألُ هذا السؤال ؟ من أين أتتك الفكرة ؟ قال قرأت مساء أمس رواية الكاتب الإسباني القتيل ( سرفانتس ) فأعجبتني حتى صرتُ أتساءل وأتحرّى أوجه الخلاف والشبه بيني وبينك من جهة وبين بَطَلي هذه الرواية من الجهة الأخرى. فكّرتُ من جهتي في هذا السؤال الصعب المفاجيء، ولمّا لم أجد له جواباً شافياً بادرت إلى القول مع شيء من المزاح الخفيف :  أنتَ أنا وأنا أنت (( إننا روحان حلاّ بَدَنا )). قال أترك فلسفة الحلاّج وصوفيته وأعطني جواباً عن سؤالي. إزداد حَرَجي وعجزي عن الجواب فتنكّبتُ طريقاً فرعياً لأقول : إننا نتبادل الأدوار يا أبا الطيّب، لذلك قلتُ آنفاً : أنتَ أنا وأنا أنتَ. عاد ليقول مُحتجَّاً : لا أفهم هذه الفلسفة وهذا اللغط واللغو، كان الرجل في زماننا رجلاً واحداً لا يتبادل الأدوار ولا يشاركه في وحدانيته أحدٌ لا في دنياه ولا في آخرته. هو هو ولا أحدٌ سواه. قلت رويدك أبا الطيب، إنما هذه سياسة وليست فلسفة. أفلمْ تقل أنتَ (( ومِن نَكَدِ الدنيا على الحُرِّ أنْ يرى // عدوّاً له ما من صداقتهِ بُدُّ )) ؟ ألا ترى هنا تبادلاً في الأدوار ؟ كيف يكون عدوك صديقاً ؟ قال دون إبطاء : قد أقنعتني يا رجل. أقنعتني وجردتني من أسلحتي شِعراً ومنطقاً وفلسفةً وسياسةً. الآن أعود مرّةً أخرى لأسألك كيف تراني وأنا أُمثِّل دورَ ( دون كيخوت ) وكيف تراني وأنا أقوم بتمثيل أداور صاحبه ( سانشا بانشا ) ؟ بارعاً، بارعاً في تمثيلك يا أبا الطيب. الشعراء الكبار ممثلون كبار، لا يعصى دورٌ تمثيلي عليهم وإلاّ فإنهم ليسوا بشعراء. قال قد أصبحتَ تُعلِّمني منطقاً جديداً ما كنتُ أعرفه. ليس هذا بمنطق، إنما هو حقيقة يعرفها كل من درس وعرف كبار الشعراء. إنهم يمثلون حين يقرأون أشعارهم مستخدمين كافة الإمكانات سواء في طبيعة وطبقاتِ أصواتهم أو في حركات وإشارات الأيدي والرؤوس  والعيون والجفون والحواجب وحركة الأرجل، وهذا ما يقوم به الممثلون عادةً. سرح رفيقي عني كأني ما كنتُ صاحبَ هذا البيان والإطناب في الشرح. تركته لشأنه ثم حين عاد إليَّ سألته أين ولماذا سرح بفكره عنّي. أجاب الرجل قد ذكّرني حديثك عن التمثيل والممثلين بأمور وأمور كنا نقولها ولا نعي أبعادها التي تعرفون اليوم. مثلاً أبا الطيّب ؟ حين قلتُ في إحدى قصائدي (( مثَّلتِ عَينكِ في حشايَ جراحةً // فتشابها، كلتاهما نجلاءُ )) ما كان في علمي إني كنتُ أستهدف أو أقصد التمثيل الذي عنيتَ أنتَ وشرحتَ. ما كانت الحبيبة تقوم بدور تمثيلي وإنما كنتُ أقصد أنَّ عينها قد تماثلتْ أمام ناظري مجرد تماثل في الوهم، لكنَّ ذلك كان كافياً ليصيبني وهمُ التمثُّلِ هذا بالجروح النجلاء التي بدورها تشابه أو تماثل عيونها النُجلَ. نظرة من نُجلِ العيون تتسبب في إصابتي بجروح نُجلٍ أو نجلاء. ف [ مثّلتِ عينكِ = تمثّلتُ عينك ] أي أنَّ المعنى مقلوب وأنا ـ كما تعلم ـ خبيرٌ بقلب المعاني في شعري وشديد التقلّب في حياتي. هكذا خَلَقني ربي لا أرتاح إلاّ في التقلب ولا أجد سعادتي القصوى إلاّ في الإنقلاب والتغيير. جعلني حديث المتنبي هذا أُطيل التفكير فيما قال. فصرتُ أُرددُ (( ولله في خَلقهِ شؤون )). الشاعر المتنبي يجد سعادته القصوى في التقلّب والتغيير، بينما البعض الآخر من البشر لا يجد مثل هذه السعادة إلاّ بنبش قبور الموتى أو الإعتداء على الناس بالسلاح أو اليد أو بالكلام البذيء أو بإفتعال العراك والتخاصم والتراشق بالتهم وفبركة الأكاذيب. كما وجدتُ بعضاً من الناس من يقف كالكلب المسعور في قارعة الطريق يتعرّض للرائح والغادي بالسباب والمهارشة كما تفعل كلاب المزابل الجائعة أو المكلوبة. هنا يجد هذا النفر الضال والمريض من البشر سعادته القصوى لأنه بالمهارشة والسب والعراك يجد مخرجاً لأزماته المستعصية ويقذف ما بداخله من عفونةٍ ونَتَنٍ إلى خارجه. إذّاك يجد راحةً ولو مؤقتة لا تدوم أبداً، فالمرض مستفحل فيه والعلّة فيه والإنحراف المَرَضي عميق في دواخل نفسه. " كلاب الزمهرير ". علّق صاحبي بشيء من المرارة. أجلْ يا أبا الطيب، إنهم من أسوأ أصناف كلاب الزمهرير. إننا مبتلون بهم وبأشباههم وإنهم مُمَثِلون بارعون فهم يجيدون تمثيل الأدوار وقلب حقائق الأمور واللعب على الحبال كأمهر المشعوذين والبهلوانات. قال أبو الطيب حتى هؤلاء الخنازير يجيدون التمثيل ؟ نعم يا أبا الطيب، إنهم يجيدون تمثيل فصول مسرحيات الشر كما يجيدون التقلّب مثل بعض الشعراء !! إنتبه صاحبي وفي جسده فورة إحتجاج على ما قلتُ لكنه تريّثَ وتفكّر متحكماً بأعصابه التي فارت فجأةً قبل أن يقول : وهل من وجهٍ للشبه بيني وبين هؤلاء المرضى ب 

{ حَكّة الجَرَب النفساني } والبارانويا وداء سُعار كلاب الحوباء الجرباء ؟ لا يا أبا الطيّب، لم أقصدْ ذلك. لا وجهَ للشبه بينك وبين هذا النفر الضال من الحيوانات المحسوبة خطأً على البشر. أكثر الناس الأسوياء يتقلبون لهذا السبب أو ذاك. لا ضررَ من تقلّبهم على سواهم. تقلّب الأسوياء فيه فلسفة وسياسة وحكمة وضروة. إنهم يتقلّبون لمصلحة أو منصب وقد يتقلّبون دفاعاً عن النفس أو لِدَرءِ خطرٍ داهم. فالمتقلِّبون في عالم السياسة اليوم هم أُناس أسوياء فيهم الذكي وفيهم السياسي الجيد وفيهم المُحنَّك في إنتهاز الفُرَص والخبير في رصد تغيّرات إتجاه حركة الرياح فيضع نفسه في إحداثياتها في الزمن المطلوب كيما لا تفوته غنيمة. هؤلاء أسوياء رغم تقلّبهم وفي تقلّبهم غناهم، إنهم أغنياء يا أبا الطيّب لا فقراء مثلي ومثلك. كان صاحبي يهزُّ رأسه هزّاً خفيفاً طوال الوقت وهو يصغي لما كنتُ أقول من كلام معروف ليس فيه شيء جديد عليَّ. بعد إستراحة قصيرة تكلّم صاحبي ليقولَ إنه كان كذلك غنياً وغنياً بتقلباته المعروفة والموثّقة في الكتب. قال إنه تقلّب بين الرجال لكنه لم يتقلّب في قِيَمه وأخلاقه أبداً. لم يخنْ صديقاً ولم يخنْ زوجه ولم يعاقرْ الخمرة ووقف أبداً ضد الظلم والظالمين حتى لو كانوا مثله قرامطةً. وإنتصف للمظلومين وقال كلمة الحق في وجوه الأمراء والسلاطين وتحداهم في قصورهم ومنتدياتهم وبيته الشعري الذي قاله أمام سيف الدولة سار بين الأمم سريان النار في الهشيم (( سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلِسُنا // بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ )). ثم بيته الشعري الآخر (( واقفاً تحت أخمَصَيْ قدرِ نفسي // واقفاً تحتَ أخمَصَيَّ الأنامُ )) وبيته الآخر (( أنا الذي بيّنَ الإلهُ به ال // أقدارَ والمرءُ حيثما جَعَلَهْ )). أردتُ أنْ أقول لرفيقي [ فيك يا أبا الطيب بعض طباع المهارشة وفيك نزعة إستفزازية أغضبت الكثير ممن عرفك سواء في زمانك أم في زماننا ]… لكني أعرضتُ مخافةَ أنْ أُغضِبَ صاحبي وخلّي الوفي، والويلُ لمن يُغضِب المتنبي كل الويل !! 

الآن، بعد هذه الرحلة الطويلة في عالم التقلّب والمتقلبين والمهارشة والمتهارشين، أفلا نعود القهقرى لموضوعك الأساس الذي يدور حول دون كيخوت وصاحبه سانشا بانشا ؟  قال ماذا تقصد ؟ أقصد أيَّ دور تفضِّل أن تلعبَ في حياتك : دور كيخوت أم دور رفيقه الذي لا يفارقه سانشا بانشا ؟ قال كلا الدورين مفروض عليَّ بما يشبه قوة الأقدار. قوّة خفيّة تجبرني أن ألعبَ دور هذا يوماً ودورَ ذاك يوماً آخر. ما حيلتي، هكذا خلقني رب العالمين. تحركني قوى خارجية فأتوهم إنني أنا المُحرِّك. غدا صاحبي شديد الإنفعال وهو يعالج هذا الموضوع فأردت أن أخفف عنه عبء معاناته فقلت له : هذا ما يسمى في عالم الفلسفة تطابق الذات والموضوع أو تطابق الداخل والخارج. أعني إنك حين تقرر أن تلعب دوراً ما في حياتك تلعبه وأنت لا تدري أهي إرادتك الخاصة النابعة من كيانك وجوهرك أم إنها إرادة أخرى فُرضِت عليك بقوة خفيةٍ من خارجك. إنبسط صاحبي قليلاً ثم قال : ما أشبه حديثك هذا عن التطابق بين الذات والموضوع والداخل والخارج بإحدى آليات جمال الفن الشعري التي نسميها

(( الطِباق )). الطباق في عالم الشعر يا أبا الطيب هو الجمع بين المتناقضات، أما تطابق الإرادات في النفس البشرية فإنه ليس كذلك. ليس بالضرورة أن تكون الإرادة المفروضة عليك من خارجك تتناقض معك أو مع إرادتك. هناك لحظة زمنية يستحيل فيها الفصل بين الإرادتين كما يستحيل فيها الحكم في أيٍّ منهما لك والآخرى عليك أو ليست منك. أنا أنتَ وأنتَ أنا. قال قد قلتَ هذا الكلام آنفاً والآن أُحسُّ كأني مقتنع به ولا إعتراض لديَّ عليه. قلتُ لكنك خالفت هذا المنطق مرّة يوم أن قلتَ : 


فما حاولتُ في أرضٍ مُقاماً

ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا


على قَلَقٍ كأنَّ الريحَ تحتي 

أوجِّهها  جَنوباً  أو شمالا  


فإرادتك أنتَ هنا واضحة وحجتك قوية فأنتَ من يوجه الريح لا الريح من

يوجّهك. قال أجلْ قد قلت وتلك مسألة أخرى خضعت لحكم معين وظرف معين قد لا يتكرر في حياة الإنسان. ثم غيّر المتنبي موقفه فعاد ليقول إنه إنما كان واقعاً زمن قوله لهذا الشعر تحت تأثير قوة سحرية خارقة لا حدود لجبروت قوتها وسلطانها فقال ما قال كما يقول المسحور والمُضطَر لا كما يقول الإنسان الحر والطليق اليد واللسان. لحظات قول الشعر هي لحظات مختَلَطة على الشاعر لا يعرف خلالها حدوداً بين إرادته هو وبين الإرادة الخارجية الغامضة والمجهولة المصدر. لا تناقض هنا بين الجابر والمجبور وبين الكاسر والمكسور. لا حرية في إختيار ما يقع عليك. تتقبله كأنه صادر منك، هكذا يوهم الإنسانُ نفسه، وإلاّ لفظته الطبيعة ونحن أبناؤها البررة. تصفيق حاد. غاب المتنبي قبل أن ينتهي التصفيق. غدا الرجلُ متواضعاً لا يُطيق المديحَ وهوأكبر مدّاح في الوجود. يقول لا المديح وحده ما يضايقه، إنما الضوضاءُ والصَخَبُ والأصواتُ العالية عموماً. غدت أعصابُ الرجل ضعيفةً. معه حق، كل الحق. ومن بقيت أعصابُهُ قويةً في هذا اليوم ؟!